الحَسَدُ شُعُورٌ مُوجِعٌ
الحسدُ مجالُهُ واسعٌ للكتابةِ فيه ، إِذْ في كُلِّ مرةٍ يمكننا أَنْ نتناولَهُ في صورةٍ من صورِهِ ، حيثُ له عدةُ صورٍ ، فهو يمثلُ لدى البعضِ هاجسَ أَلمٍ مزعـجٍ ، يتوغلُ في أَمَّهاتِ شعورِهم ، فيقضُّ مضاجِـعَـهـم ، ويشكلُ لهم همَّـاً دائـمَ التجددِ في كلِّ مرةٍ ، فهو سُـقْـمُ القلوبِ التـي تكونُ فارغةً من القناعةِ ، وحُبِّ الخيرِ للناسِ ، مع الإِيمانِ بأَنَّ ما هم فيه إنما هو من عندِ الله ، وما فيه الآخرون هو من عند الله أَيضاً ، يتوجبُ الرضا علينا بما يكتبه الله لنا ، سواءً بهذهِ أَو بتلكَ ، وكثيراً ما يتولدُ عن الحسدِ فـي قلوبِ الناسِ نكدٌ لا طاقةَ لهم على حملِهِ .
ولنعلمْ أَنَّ الحسدَ هو الأَساسُ في الشرِّ ، بل هو الأُمُّ التي تنبثقُ من رحمِها صنوفُ الشرِّ بمختلفِ أَلوانِهِ وأَشكالِهِ وأَحجامِهِ في هذه الحياةِ ، ولولا الحسدُ ما قامتِ الصراعاتُ منذُ أَزلِ الحياةِ في نشأَتِها واستمرار تلكَ الصراعاتِ إِلى أَنْ يقضـيَ الله أَمـراً كان مفعـولاً ، حيـنَ يرثُ الله سبحانـه الأَرضَ ومَـنْ عليها .
ويهدفُ الحاسدُ إِلى الأَسبابِ التي تُـزيلُ النعمةَ التي وهبها الله لغيـرِهِ من الناسِ ، ويتمناهـا أَنْ تكـونَ عنـدَهً ، أَو اخـتَـصَّـهُ الله ِبـهـا دونَ غيـرِهِ ، سـواءً كانت مالاً ، أَو صحةً ، أَو علـمـاً ، أو مفـازةً فـي الدنيا أَو الآخرةِ ، نعم فهـو يحسـدُ أَولئكَ الذيـنَ أُوتـوا مُـتَـعَـاً فـي الحياةِ الدنيا بمالٍ ، أو صحـةٍ ، أو نجـاح ، وغيـرِها مـن أُمـورِ الدنيـا ، أَو يحسـدُ المصلينَ ، والصائمينَ ، والمكثريـنَ من عملِ الطاعاتِ مبتغينَ وجـهَ الله ، وحُـسْـنَ ثوابِ الآخرةِ ، متمنياً أَنْ يكونَ ابـنُـهُ أَو بنوهُ من هؤُلاءِ المتعبدينَ ، معَ أَنَّ الحاسدَ في هذه الحالةِ يمكنه أَنْ يفعلَ هذه الطاعاتِ ، ليفوزَ كفوزِ أُولئكَ .
ولا يخلو إِنسانٌ من الحسدِ إِلاَّ مَـنْ رَحِمَ ربي سبحانه ، ولكنَّ الاختلافَ يظهـرُ في قوةِ تعاملِ هذا الإِنسانِ مع الحسدِ الذي بداخلِهِ ، فإِنْ كانَ مؤمناً ، قويِّ الإِيمانِ بالله ، تقيَّاً ، يراقبُ الله في باطنِ أَعمالِهِ وظاهرِها ، استطاعَ أَنْ يحيي في نفسِهِ تقواها ، فيئِدُ فجورَها ليكبحَ جماحَها المحمولِ على الشرِّ ، حتى يعـودَ بها إِلى أَصلِ نشأَتها ، وهي البـراءةُ ، والنـزاهـةُ ، والنقـاءُ لتمارسَ ما أَرادَهُ الخالقُ منها عبادةً ، وصالـحَ الأَعمالٍ ، وسديـدَ أَقوالٍ ، وحسانَ ظنونٍ .
ولا يوجدُ ثمـةُ إِنسانٍ لا تنازعُهُ نفسُهُ بين الخيرِ والشرِّ ، ولكنَّ العاقلَ من اتقى وأَصلـحَ نفسَهُ بعدَ فسادِها ، أَو حالَ بتقواه بين هذه النفسِ وبين عواملِ الفسادِ التي من أَهمِّـهـا تنميةُ عنصرِ الحسـدِ فيها واستفحالِهِ عن طريق الانشغالِ الفكريِّ الوسواسيِّ ، أو حديـثِ النفسِ في ما يرى الناسَ عليه مِنْ نعيمٍ في أُمورِ الدنيا دونَ الآخـرةِ ، فالذي يؤمِـنُ نفسَـه عقابَ الآخـرة ، وعظمةَ هولِ العقابِ لأَقوالِهِ ، وأَفعالِهِ الشريرَةِ ، حينذاكَ تتعاظمُ عندَهُ الدنيا بزيفِها ، ويتعاظمُ فيه الحسدُ ، لينتهي به إِلى نهايـةٍ مؤلمـةٍ .
والحسدُ يقودُ اهتمامَ الحاسدِ نحوَ نعيمٍ اختصَّ الله به بعضَ عبادِهِ ، أَلا نعلمُ بأَنَّ الله سبحانه قد جعلَ الناسَ متفاوتين في أَرزاقِهِم لحكمةٍ هو يعلمُها ولا ندركُها ولا ندركُ الغايةَ منها ، لأَنَّ الله سبحانه قادرٌ وهو العليم على أَنْ يجعلَ الناسَ متساوين في الأَرزاقِ ، ولكِـنْ ليبلوَنَـا في ذلكَ كي يتضحَ لأَنفسِنا ، مَـنْ منا الشاكرون ومَـنْ منا القانطون ؟ ، ومَـنْ منا يرجـو الدنيـا فقـط بقليـلِ نعيمِهَا الزائلِ ، ومَـنْ منا يرجو الآخرةَ بعظيمِ نعيمِهَا الدائمِ ؟! .
ثم لنتأَملْ ، كم من ثريٍّ هو الآنَ تحتَ الثرى ، لا يملكُ إِلاَّ ما قدمَ من الصالحاتِ فـي الدنيا التي رَحَلَ عنها ، وتركَ كُلَّ ثروتِهِ فيها ، وربَّـمَـا لم يتمتعْ بها ، بل ربَّـمّـا صارت وبالاً عليه ، وسبَبَ همومِهِ وأَحزانِهِ وشقاه ، حينَ كانَ حَـيَّـاً منشغلاً بها مهملاً واجبَهُ الأَخرويَ .
وفي الناسِ أُناسٌ لو علمِوا الجنينَ في بطنِ أُمِّـهِ ، وقد فرحت به ، وعلَّقَت عليه آمالاً كثيرةً ، لأَحالُوه إِلى دَمٍ فاسدٍ ، ثم أَخرجوه دَفْـقَـاً دَمَـاً لا نَـفْـعَ منه .
فلنحمدِ الله على ما نحنُ فيه من نعمةٍ ، نسأَلُه دوامَها ، ونستعيذُ به سبحانه من أَسبابِ زوالِـهـا ، ومن أَهمِّ أَسبابِ زوالِـهـا ، عدمُ الرضى ، وعدمُ الشكرِ ، لأَنَّ الله سبحانـه يزيـدُ الشاكرين فضلاً منه ، ويباركُ لهم في أَرزاقِهِم .